إن كنت رجل فلا تضرب زوجتك

كثُر الجدل في هذه الآونة حول تصريح يتناول ضرب الزوجات ينص على صورة من الضرب غير المبرح، والذي قوبِل بكثير من الاعتراض والحنق، وربما وصل إلى التطاول على التشريع نفسه.

وأنا أقول: حتى نفهم هذه القضية علينا أن نتخلى عن خاصية “الزوم” التي تقترب من بعض الأشياء فتُبشعها وتُضخِّمها وحدَها، بينما إن وُسعت عدسة الكاميرا اجتمعت التفاصيل والدقائق كلها، فالتقطت الصورة كاملةً وظهر جمالها المتناسق، وهذا ما سوف أُجليه في هذا المقال، وأرجو أن تتحملوا طوله رغم حرصي على الإيجاز، لكن الموضوع لا يوجز بكلمتين بل يحتاج تفصيلًا، وحتى نتصور المشهد كاملًا، علينا بالآتي:
أولًا: مراعاة الأعراف المختصة بهذا الزمن:
 ومنها أن الضرب كان وسيلة تأديب لكل ما تحت يدي الرجل، وهذا مشهور ومشاهد في حوادث العرب وسجلاتهم، ويطول المقام في تقريره.

 أن الضرب كان لا يعد في هذا المجتمع اعتداءً وَلَا تَعُدُّهُ النِّسَاءُ أَيْضًا اعْتِدَاءً، ولَا يَعُدُّونَ صُدُورَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِضْرَارًا وَلَا عَارًا وَلَا بِدْعًا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فِي الْعَائِلَةِ، وَلَا تَشْعُرُ نِسَاؤُهُمْ بِمِقْدَارِ غَضَبِهِمْ إِلَّا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

ومن الشواهد أن المرأة كانت تقبل ذلك، أنه لما طُلقت هند بنت عتبة من الفاكه المخزومي، قالت لأبيها: يا أبتِ: إنك زوَّجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي، فعرض لي معه ما عرض؛ فلا تزوِّجني من أحد حتى تعرض عليَّ أمرَه، وتبيِّن لي خصاله، فخطبها سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب، فَقَالَ لَهَا أبوها: إِنَّهُ قَدْ خَطَبَكِ رَجُلانِ مِنْ قَوْمِكِ وَلَسْتُ مُسَمِّيًا لَكِ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى أَصِفَهُ لَكِ: أما أحدهما ففي ثروة واسعة من العيش، إن تابعتِه تابَعك، وإن ملتِ عنه حطَّ إليك، تَقْضِينَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَتَكْتَفِينَ بِرَأْيِكِ عَنْ مَشُورَتِهِ، وأما الآخر فموسَّع عليه، منظور إليه في الحسب الحسيب، والرأي الأريب، بَدَرَ أَرُومَتَهُ، وَعَزَّ عَشِيرَتَهُ، يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ وَلا يُؤَدِّبُونَهُ، إِنِ اتَّبَعُوهُ أَسْهَلَ بِهِمْ، وَإِنْ جَانَبُوهُ تَوَعَّرَ عَلَيْهِمْ، شَدِيدُ الْغَيْرَةِ، سَرِيعُ الطِّيَرَةِ، صَعْبُ حِجَابِ الْقُبَّةِ، إِنْ حَاجَّ فَغَيْرُ مَنْزُورٍ، وَإِنْ نُوزِعَ فَغَيْرُ مَقْهُورٍ، وَقَدْ بَيَّنْتُ لَكِ كَلَيْهِمَا، فقالت: يا أبت، الأوَّل سيد مضياع للحرَّة، فما عست أن تلين بعد إبَائِهَا، وتضيع تحت خِبَائِهَا، فساء عند ذلك حالها، وقبُح عند ذلك دلالُها، فإن جاءت بولد أَحْمَقَتْ، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطوِ ذكر هذا عني، ولا تسمِّه عليَّ بعدُ، وأما الآخَرُ فَبَعْلُ الْحُرَّةِ الْكَرِيمَةِ، إِنِّي لأَخْلاقِ هَذَا لَوَامِقَةٌ، وَإِنِّي لَهُ لَمُوَافِقَةٌ، وَإِنْ لآخُذَهُ بِأَدَبِ الْبَعْلِ مَعَ لُزُومِي قُبَّتِي، وَقِلَّةِ تَلَفُّتِي، وَإِنَّ السَّلِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَحَرِيٌّ أَنْ يَكُونَ الْمُدَافِعَ عَنْ حَرِيمِ عَشِيرَتِهِ، الذَّائِدَ عَنْ كَتِيبَتِهَا، الْمُحَامِيَ عَنْ حَقِيقَتِهَا، فزوَّجها من أبي سفيان؛ [انظر: الأمالي لأبي علي القالي، والعقد الفريد].

فعلينا أن ننظر بدايةً إلى مفهوم الضرب في هذا التوقيت، ومدى قَبوله ورفضه، وأنه لم يكن يختص بالزوجة، ولكن يشمل كل ما أريد تأديبه وزجره من زوجة وخادم وأولاد، هذا أولًا.

ثانيًا: أن الإسلام تعامل مع الضرب في هذه الأشياء المذكورة (الزوجة/ الخادم/ الولد) على أنه أمرٌ متفشٍّ ومستقر في القوم وأسلوب تأديبي، فنهض إلى ترشيده، وسعى في الحد منه وذلك بثلاثة طرق:

1- الأسوة الحسنة في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم:
فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ وَلَا خَادِمًا، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وقولها هذا يُشعرنا بالمعنى السابق أن الضرب سلوك مستحكم، فكانت مخالفة النبي له أشبه بالظاهرة التي تحتاج إلى رصد وتسجيل.

2- التحذير من الاعتداء في الضرب عمومًا:
 أخرج البخاري في “الأدب المفرد” (185-186) عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «مَنْ ضَرَبَ ضَرْبًا ظُلْمًا، اقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ صحَّحه الألباني.

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ، وَلَا يَقُلْ: قَبَّحَ اللهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ».

3- التعامل مع حالات الضرب بخصوصها وتوجيه، وترشيد كل منها بما يناسبه.
ونفصل القول في كلٍّ على حِدة مع محاولة الإيجاز، لكن من المهم قبل هذا التفصيل أن نستحضر في كل جزئية ما ورد فيها من وصايا وإحسان وتكريم وبرٍّ في القرآن والسنة؛ (أعني التعامل مع الأبناء الصغار والخدم والنساء…)، ولولا خشية الإطالة لحشدت لذلك حشدًا، وتفصيل ذلك فيما يلي:

أ‌- ضرب الأبناء:
ففي ضرب الأبناء يَشتهر حديث الضرب على الصلاة، وهنا ننظر هل الحديث يدعو إلى الضرب أم ترشيده؟ ونص الحديث يوضح المسألة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»؛ سنن أبي داود (1/ 133)، وقال الألباني: حسن صحيح.

وهنا نرى أهمية التعليم والتعويد للصبي قبل المباشرة في الضرب، فوفق ما سبق الضرب كائنٌ كائن؛ لأنه أسلوب متعارف عليه عندهم في ذلك الزمان، لكن النبي أراد أن يؤسس قاعدة، وهي لا تسبق بالضرب قبل التفهيم والتعليم والتعويد، الذي قد يستغرق 3 سنوات!

ومسألة أخرى أنه جعل سِنًّا معينة للضرب؛ حتى لا يتجاوزه البعض، فيضرب الصبي كل حين في صغره، فجعله 10 سنين، وإذا اعتبرنا أن الصبي كان يجاز لعمل الأمور الصعبة إذا بلغ 15 سنة، فالعشر سنين في وقته تجعله من الإدراك والفهم والوعي بقيمة هذا الضرب الرادع، ومع ذلك تكلَّم بعض الفقهاء حول ذلك، وأخذوا يقيدون الضرب بحد أقصى وحد أدنى، وبآلة أم باليد، ومن له الحق الوالد فقط أم للمعلم؟

ب‌- ضرب المملوك والخادم:
1- جعل النبي ضرب المملوك بغير حق كفارته إعتاقه، وأن يكون حرًّا، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ».

2- عدم الظلم والتجني، وأن تكون المجازاة والعقاب على قدر الخطأ، فقط فقد جلس رَجُل مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، فَأَضْرِبُهُمْ وَأَسُبُّهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِحَسْبِ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتَصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلَ الَّذِي يَبْقَى قِبَلَكَ»، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَهُ؟ أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]»، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَجِدُ شَيْئًا خَيْرًا لِي مِنْ فِرَاقِ هَؤُلَاءِ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ؛ رواه البيهقي في شعب الإيمان (11/ 86).

3- التهديد والوعيد لمن فعل ذلك:
يقول أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي، «اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ»، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ»، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وفي رواية قال: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»؛ [رواه مسلم].

ج- ضرب الزوجات:
وهنا بيت القصيد، اتفقنا من قبل أنه – مع ما سبق من ضرب الخادم والصبي – عادة مستحكمة، وأسلوب للتأديب، وهنا تعامل معه الشرع كما تعامل مع سابقيه، بكف الظلم فيه وألا يكون مهينًا، وأن يكون بقدر الحاجة، إلى غير ذلك من التفصيل في كتب الفقه.

لكن في تعامل النبي معه أمور:
أولًا: أن لم يتسنَّ منعُه؛ لأن الأمر لم يستقم من دونه لطبيعة القوم؛ لأن بعض النساء حينها لم يستقمن إلا بهذا التأديب، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ»، هذا نهي واضح، والصحابة استجابوا له وامتنعوا بالفعل، لكن حدث ما لا يقبله الدين أيضًا، فَجَاءَ عُمَرُ، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَئِرَ النِّسَاءُ، وَسَاءَتْ أَخْلَاقُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنْ ضَرْبِهِنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاضْرِبُوهُنَّ»، وفي رواية فرخص في ضربهنَّ، فَضَرَبَ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَتَى نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ: «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ سَبْعُونَ امْرَأَةً، كُلُهُنَّ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ، وَايْمُ اللَّهُ لَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ»؛ [حديث صحيح].

ونفهم من هذا الحديث:
1- أن النبي نهى في البدء عن ضرب الزوجة.
2- أن محاولة المنع قابلها عصيان الزوجات.
3- أنه رخَّص فيه، لكن جعل الخير في تركه، وأن من يضربون ليسوا خيارهم.

ثانيًا: كان نصح آخر من النبي بأمر يتوسط بين الضرب وبين منعه:
فقد أراد أن يسلك المسلمون مسلكًا وسطًا، وهو التهديد بالضرب فقط، وذلك في قوله: «عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاه أَهْلُ الْبَيْتِ»، فهذا مجرَّد تعليق آلة الضرب في مكان يراه أهل البيت (الزوجة – الابن – الخادم)، يجعلهم يطيعون ولا يتجرؤون فيعصون، فيحصل المقصود من الضرب دون مباشرته.

ثالثًا: النبي صلى الله عليه وسلم وصف ضرب المرأة، فقَالَ: « إلامَ يعمِدُ أحدُكم فيجلِدُ امرأتَهُ جلدَ العبدِ، ولعلَّهُ أن يضاجعَها من آخرِ يومِهِ».

رابعًا: كان النبي يُبعد من اختيارات النساء في الزواج الرجل كثير الضرب:
فلما جاءت فاطمة بنت عبدقيس تخبر النبي بخُطَّابها الثلاثة: (مُعَاوِيَة، وَأَبي جَهْمٍ، وَأُسَامَة بْنُ زَيْدٍ)، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ، لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ»؛ [رواه مسلم].
وهنا كان استبعاد أبي جهم بسبب أنه كثير الضرب للنساء (ضرَّاب) صيغة مبالغة، وفي رواية: «لاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ».

خامسًا: في أحد المواقف قدم النبي الطلاق على الضرب في معالجة أخلاق الزوجة، فعن وَافِدِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي امْرَأَةً فَذَكَرَ مِنْ طُولِ لِسَانِهَا وَبَذَائِهَا، فَقَالَ الرسول: «طَلِّقْهَا» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا ذَاتُ صُحْبَةٍ وَوَلَدٍ، قَالَ: «فَأَمْسِكْهَا وَأْمُرْهَا، فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلُ، وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ ضَرْبَكَ أَمَتَكَ»؛ مسند أحمد، ط الرسالة (26/ 310)؛ إسناده صحيح، رجاله ثقات.

فكان الاختيار الأول الطلاق، ولما رأى من الرجل حسن عهده بها وبصُحبتها، جعل يُرشده في مسألة الضرب التي ستحدث لِما قررناه من طباع هذا المجتمع، فنهاه أن يكون ضربه كما تُضرب الأمة المستملكة على عادتهم لا على شِرعة الإسلام التي هَذبت من ضرب العبد والأمة أيضًا.

ثم أما بعد:
ففي ضوء كل هذا علينا أن نفهم الآية التي جاء ذكر الضرب فيها:
﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ [النساء: 34].

إن من فوائد الآية تهذيب وضع الضرب؛ لأن الضرب قائم لا محالة، وهو سلوك مستحكم في القوم، وذلك بفهم الآية نفسها:
1- أنه ذُكر في النشوز، وهو علوُّ المرأة على الرجل وعصيانها له، وذلك بدلًا من أنه كان في كل تصرُّف أو خطأ للمرأة.

2- أنه جعله إحدى الوسائل التأديبية وليس أولها، بل هو آخرها.

3- التنبيه على عدم الظلم والعدوان والكف المباشر بمجرد الطاعة للزوج مرة أخرى، فالغرض الردع لا التشفي والعقاب، ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34]، والتذكير بصفات العلو والكبر، تهدد العبد بقدرة الله وقهره وانتقامه إن جنى وبغى.

إذًا الآية تدعو لإصلاح النشوز منهُنَّ بالضرب بما لا يؤدي إلى الشقاق والتنافر، وذلك بأي وسيلة ممكنة يرتضيها عُرف الناس ويُقرونها ويتصالحون عليها، ومن هذه الوسائل الضرب، فإن كان القوم يرضون بالضرب مثلما كان في وقت النبي وأصحابه، ولا يعدونه اعتداءً، وكان هذا الضرب يُؤتي ثمرته تلك، كان لهم أن يستخدموه، وإن صار الضرب عندهم من الإهانات في العرف ويؤدي إلى النزاع والشقاق، فحينها ينظر في سواه من الوسائل.

فمراعاة العرف معتبرة وكل بلد وبيئة وطبقة من الناس لهم معارفهم وتقاليدهم، من ذلك قول عُمر بن الخطاب: (كُنَّا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ نِسَاءَنَا، فَلَمَّا أَنْ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ…).

ومع ذلك فمن استخدم الضرب رخصة في ردع النشوز، (وأنا أؤكد أن الضرب للنشوز لا غيره من الخلافات والمخاصمات)، فمن استخدَمه وَفْق العادة المستقرة في البلد، عليه ألا يُفرط فيه؛ لأن النبي قيَّد اللفظ المطلق (اضربهون)، فقال كما في خطبة الوداع: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ، لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقًّا: أَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا غَيْرَكُمْ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ»؛ أي: غير مُؤَثِّرُ، وهو الذي فصَّل فيه الفقهاء في كيفيته وأداته، وأنه لا يَكسِر عظمًا ولا يجرح جلدًا، وأن يكون بسواك أو عود، أو ما أشبه.. إلخ، وكذلك اعتبار قوله الآخر: «وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْت».

ومما سبق أظن أن الصورة قد اتَّضحت، وقد كتبتُ هذا على عجالة؛ حتى يَستبين الأمر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

إرسال تعليق

0 تعليقات