كل نفس ذائقة الموت

الموت مخلوق عجيب من مخلوقات الله تعالى، خلقه ليبلو العباد أيهم أحسن عملا: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك:1، 2].

وقد نصب الله تبارك وتعالى الموت دليلاً على قدرته الباهرة وعظمته القاهرة؛ فقضى به على الصغير والكبير، والغني والفقير، والوزير والحقير، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والعاصي، والذاكر والناسي. قصم به رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة. أذل به رقابهم، وأخضع له أعناقهم، ونقلهم جميعًا راغمين صاغرين من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، ومن أُنس العشرة إلى وحشة الوحدة؛ حيث لا أنيس ولا جليس، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل.

والموت كما يعرفه العلماء هو: “انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له”. ومع هذا تبقى حقيقة الموت ـ كما الحياة ـ آية من آيات الله، ويظل سريان الروح في البدن وانتزاعها منه سرًا خافيًا وراء الستر المسبل بيد الله تعالى، لا يعرف كيفية ذلك إلا الذي خلق الموت والحياة ؛ كما ذكر الإمام القرطبي في تذكرته قال: كان أعرابي يسير على جمل له فخرَّ الجمل ميتًا، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: “مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟ هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة؟ ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ ما الذي عن الحركة منعك.
جاءته من قبل المنون إشارة.. … .. فهوى صريعًا لليدين وللفم
هذي يداه وهذه أعضـاؤه.. … ..ما منه من عضو غدا بمسلم
هيهات ما حبل الردى محتاجه.. … ..للمشرفي وللحسام اللهذم
هي ويحكم أمر الإله وحكمه.. … ..والله يقضي بالقضاء المحكم
يا حسرتا لو كان يقدر قدرها.. … ..ومصيبة عظمت ولما تعظم
خبر علمنا كلـــنا بمــكانه.. … ..وكأننا في حـالنا لم نعــلم

وإذا كان الموت هو “انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له”. إلا أنه ليس عدمًا محضًا ولا فناءً صرفا، وإنما هو تبدل من حال إلى حال، وانتقال من دار إلى دار. قال عمر بن عبد العزيز: “يا أهل الدنيا إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما خلقتم للأبد والبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار”.

كل نفس ذائقة الموت
استأثر الله سبحانه بالملك والبقاء، وأذل رقاب الخلق بما كتب عليهم من الفناء، فليس مخلوق إلا وهو ميت، يموت الصالحون والطالحون، يموت النبيون والمرسلون، يموت الملائكة المقربون، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)[الرحمن:26، 27]. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آل عمران:185] (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص:88].

روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: “يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضيين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون…”.

فاعلم يا عبد الله أن لكل واحد منا مع الموت موعدًا مضروبًا، وأجلاً معدودًا، ووقتًا محسوبًا، وأنه إذا جاء فلا محيد عنه ولا محيص منه، (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)[يونس:49].

(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون:10، 11].

موعد مجهول:
فإذا علمت أنك ميت لا محالة، وأن موعد الموت غيب لا يعلمه إلا الله، فلا أحد يعلم متى ينتهي أجله ولا أين توافيه منيته، وإنما هو غيب غيبه الله عن العباد فلا يعلمه إلا هو (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان:34].. أدركت عندئذ معنى قول حبيبك صلى الله عليه وسلم : “أكثروا من ذكر هاذم اللذات”

فإن كثرة ذكر الموت تعطيك ثلاث فوائد: تعجيل التوبة، والرضا بالقليل، وعدم مزاحمة أهل الدنيا في دنياهم.
كما وأن نسيان الموت والغفلة عنه يورث أشياء ثلاثة: قسوة القلب. وتسويف التوبة. وحب الدنيا.. التي من أحبها وتعلق قلبه بها أورثته شغلاً لا يفرغ منه أبدًا، فهو كترس في آلة أو كثور معلق في ساقية. وهمّا لا ينصرف عنه أبدًا. وعدم رضًا لا ينفك عنه أبدًا ولو ملك كنوز الأرض.

قال عمر بن عبد العزيز: “أكثر من ذكر الموت، فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك، وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك”.
قال إبراهيم التيمي: “شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل”.
قال الحسن: “ما رأيت عاقلاً قط إلا أصبته من الموت حذرًا وعليه حزينًا”.
وكان الربيع بن خيثم قد حفر قبرًا في داره، فكان ينام فيه كل يوم مرات، وكان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد.

فاجعل الموت منك على بال، واستعد له في كل لحظة فإنك معرض له. واجعل حاديك في كل زمان ذاك الرجل الذي كان يخرج كل ليلة فينادي الرحيل الرحيل، فلما مات سأل عنه الأمير فقالوا: مات. فقال:
مازال يلهج بالرحيل وذكره.. … ..حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظًا ومشمــرًا.. … ..ذا أهبة لم تلهه الآمال
والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

إرسال تعليق

0 تعليقات